فصل: من الآية 198: 222 من سورة البقرة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


قال إبراهيم وحدّثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله‏.‏ ذكره في المحصر‏.‏

قال الشوكاني في ‏"‏نيل الأوطار‏"‏‏:‏ والظاهر عدم وجوب الدم؛ لعدم الدليل‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الظاهر‏:‏ أن الدليل عند من قال بذلك هو الأحاديث الواردة بأنه صلى الله عليه وسلم، لمّا صده المشركون عام الحديبية نحر قبل الحلق وأمر أصحابه بذلك، فمن ذلك ما رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن المسور، ومروان في حديث عمرة الحديبية والصلح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه‏:‏ ‏"‏قوموا فانحروا ثم احلقوا‏"‏‏.‏

وللبخاري عن المسور أن النبيّ صلى الله عليه وسلم نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك اهـ‏.‏ فدلّ فعله وأمره على أن ذلك هو اللازم للمحصر ومن قدّم الحلق على النحر فقد عكس ما أمر به النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومن أخلّ بنسك فعليه دم‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي تدلّ عليه نصوص السنة الصحيحة أن النحر مقدّم على الحلق، ولكن من حلق قبل أن ينحر فلا حرج عليه من إثم ولا دم، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان في ‏"‏صحيحيهما‏"‏، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أجاب من سأله، بأنه ظن الحلق قبل النحر فنحر قبل أن يحلق، بأن قال له‏:‏ ‏"‏افعل ولا حرج‏"‏‏.‏

ومن ذلك ما أخرجه الشيخان في ‏"‏صحيحيهما‏"‏، أيضًا عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال‏:‏ ‏"‏لا حرج‏"‏‏.‏

وفي رواية للبخاري، وأبي داود، والنسائي، وابن ماجه سأله رجل فقال‏:‏ حلقت قبل أن أذبح، قال‏:‏ ‏"‏اذبح ولا حرج‏"‏، وقال‏:‏ رميت بعد ما أمسيت، فقال‏:‏ ‏"‏افعل ولا حرج‏"‏‏.‏

وفي رواية للبخاري، قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ زرت قبل أن أرمي، قال‏:‏ ‏"‏لا حرج ‏"‏، قال‏:‏ حلقت قبل أن أذبح، قال‏:‏ ‏"‏لا حرج‏"‏، والأحاديث بمثل هذا كثيرة‏.‏ وهي تدل دلالة لا لبس فيها على أن من حلق قبل أن ينحر لا شىء عليه من إثم ولا فدية؛ لأن قوله‏:‏ ‏"‏لا حرج‏"‏، نكرة في سياق النفي ركبت مع لا فبنيت على الفتح‏.‏ والنكرة إذا كانت كذلك فهي نصّ صريح في العموم، فالأحاديث إذن نصّ صريح في عموم النفي لجميع أنواع الحرج من إثم وفدية‏.‏ واللَّه تعالى أعلم‏.‏

ولا يتضح حمل الأحاديث المذكورة على من قدم الحلق جاهلاً، أو ناسيًا، وإن كان سياق حديث عبد اللَّه بن عمرو المتفق عليه يدلّ على أن السائل جاهل؛ لأن بعض تلك الأحاديث الواردة في الصحيح ليس فيها ذكر النسيان ولا الجهل، فيجب استصحاب عمومها حتى يدل دليل على التخصيص بالنسيان والجهل، وقد تقرر أيضًا في علم الأصول أن جواب المسؤول لمن سأله لا يعتبر فيه مفهوم المخالفة؛ لأن تخصيص المنطوط بالذكر لمطابقة الجواب للسؤال، فلم يتعين كونه لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، وقد أشار له في ‏"‏مراقي السعود‏"‏، في مبحث موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله عاطفًا على ما يمنع اعتباره‏:‏ أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب

كما يأتي بيانه في الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ‏}‏‏.‏ وبه تعلم أن وصف عدم الشعور الوارد في السؤال لا مفهوم له‏.‏

وقال الشوكاني في نيل الأوطار‏:‏ وتعليق سؤال بعضهم بعدم الشعور لا يستلزم سؤال غيره به حتى يقال‏:‏ إنه يختص الحكم بحالة عدم الشعور، ولا يجوز اطراحها بإلحاق العمد بها‏.‏

ولهذا يعلم أن التعويل في التخصيص على وصف عدم الشعور المذكور في سؤال بعض السائلين غير مفيد للمطلوب، انتهى محل الغرض منه بلفظه‏.‏

{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ‏}

، لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ لم يبيّن هنا ما هذا الفضل الذي لا جناح في ابتغائه أثناء الحج‏.‏

وأشار في آيات أُخر إلى أنه ربح التجارة كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ‏}‏؛ لأن الضرب في الأرض عبارة عن السفر للتجارة، فمعنى الآية يسافرون يطلبون ربح التجارة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏، أي‏:‏ بالبيع والتجارة، بدليل قوله قبله‏:‏ ‏{‏وَذَرُوا الْبَيْعَ‏}‏، أي‏:‏ فإذا انقضت صلاة الجمعة فاطلبوا الربح الذي كان محرمًا عليكم عند النداء لها‏.‏

وقد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب أن غلبة إرادة المعنى المعين في القرءان تدلّ على أنه المراد؛ لأن الحمل على الغالب أولى، ولا خلاف بين العلماء في أن المراد بالفضل المذكور في الآية ربح التجارة، كما ذكرنا قوله تعالى

‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الامُورُ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏،

ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُلم يبيّن هنا المكان المأمور بالإفاضة منه المعبر عنه بلفظة ‏{‏حَيْثُ‏}‏، التي هي كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان‏.‏

ولكنه يبيّن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ‏}‏‏.‏ وسبب نزولها أن قريشًا كانوا يقفون يوم عرفة بالمزدلفة، ويقولون‏:‏ نحن قطان بيت اللَّه، ولا ينبغي لنا أن نخرج من الحرم؛ لأن عرفات خارج عن الحرم وعامة الناس يقفون بعرفات، فأمر اللَّه النبيّ صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، أن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وهو عرفات، لا من المزدلفة كفعل قريش‏.‏

وهذا هو مذهب جماهير العلماء، وحكى ابن جرير عليه الإجماع، وعليه فلفظة ثم للترتيب الذكري بمعنى عطف جملة على جملة، وترتيبها عليها في مطلق الذكر، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ‏}‏‏.‏

وقول الشاعر‏:‏ إن من ساد ثم ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جده

وقال بعض العلماء المراد بقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ‏}‏ الآية،

أي‏:‏ من مزدلفة إلى منى، وعليه فالمراد بالناس إبراهيم‏.‏

قال ابن جرير في هذا القول‏:‏ ولولا إجماع الحجة على خلافه لكان هو الأرجح‏.‏

{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏، لم يبيّن هنا سخرية هؤلاء الكفار من هؤلاء المؤمنين ولكنه بيّن في موضع آخر أنها الضحك منهم والتغامز وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةََ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏، وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَـامَةِ لم يبين هنا فوقية هؤلاء المؤمنين على هؤلاء الكفرة، ولكنه بين ذلك في مواضع أُخر كقوله‏:‏ ‏{‏فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةََ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏، وَعَسَىا أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لم يصف هذا الخير هنا بالكثرة وقد وصفه بها في قوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا‏}‏‏.‏

{‏وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏، لم يبيّن هنا هل استطاعوا ذلك أو لا ‏؟‏ ولكنه بيّن في موضع آخر أنهم لم يستطيعوا، وأنهم حصل لهم اليأس من ردّ المؤمنين عن دينهم، وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ‏}‏‏.‏ وبيّن في مواضع أُخر أنه مظهر دين الإسلام على كل دين كقوله في ‏"‏براءة‏"‏، و ‏"‏الصف‏"‏، و‏"‏الفتح‏"‏، ‏{‏هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ‏}‏‏.‏

{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏

قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ لم يبيّن هنا ما هذا الإثم الكبير‏؟‏ ولكنه بيّن في آية أُخرى أنه إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، والصدّ عن ذكر اللَّه، وعن الصلاة، وهي قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ‏}‏‏.‏

{‏وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}

، وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَـاتِ ظاهر عمومه شمول الكتابيات، ولكنّه بيّن في آية أُخرى أن الكتابيات لسن داخلات في هذا التحريم، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏، فإن قيل الكتابيات لا يدخلن في اسم المشركات بدليل قوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ‏}‏، والعطف يقتضي المغايرة، فالجواب أن أهل الكتاب داخلون في اسم المشركين كما صرح به تعالى في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُم مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏

، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ لم يبيّن هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظة حيث ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين‏.‏

إحداهما‏:‏ هي قوله هنا‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ‏}‏؛ لأن قوله‏:‏ ‏{‏فَاتُواْ‏}‏ أمر بالإتيان بمعنى الجماع وقوله‏:‏ ‏{‏حَرْثِكُمْ‏}‏، يبيّن أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث يعني بذر الولد بالنطفة، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد، كما هو ضروري‏.‏

الثانية‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏؛ لأن المراد بما كتب اللَّه لكم، الولد، على قول الجمهور وهو اختيار ابن جرير، وقد نقله عن ابن عباس، ومجاهد، والحكم، وعكرمة، والحسن البصري، والسدي، والربيع، والضحاك بن مزاحم، ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل‏.‏ فالقبل، إذن هو المأمور بالمباشرة فيه، بمعنى الجماع فيكون معنى الآية فالآن باشروهن ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد، الذي هو القبل دون غيره، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏، يعني الولد‏.‏

ويتّضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏، يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب، أو غير ذلك، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي اللَّه عنه قال‏:‏ كانت اليهود تقول‏:‏ إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت ‏{‏نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ‏}‏‏.‏

فظهر من هذا أن جابرًا رضي اللَّه عنه يرى أن معنى الآية، فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها‏.‏

والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب ‏"‏طلعة الأنوار‏"‏، بقوله‏:‏ تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له محقق

وقد قال القرطبي في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏، ما نصّه‏:‏ وما استدلّ به المخالف من أن قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏، شامل للمسالك بحكم عمومها، فلا حجة فيها؛ إذ هي مخصصة بما ذكرناه، وبأحاديث صحيحة، حِسان شهيرة، رواها عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابيًا، بمتون مختلفة، كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار، ذكرها أحمد بن حنبل في ‏"‏مسنده‏"‏، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم‏.‏

وقد جمعها أبو الفرج الجوزي بطرقها في جزء سماه ‏"‏تحريم المحل المكروه‏"‏‏.‏

ولشيخنا أبي العباس أيضًا في ذلك جزء سماه ‏"‏ إظهار إدبار من أجاز الوطء في الأدبار ‏"‏ قلت‏:‏

وهذا هو الحقّ المتبع، والصحيح في المسألة‏.‏

ولا ينبغي لمؤمن باللَّه واليوم الآخر أن يعرج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصحّ عنه، وقد حذرنا من زلة العالم‏.‏ وقد روي عن ابن عمر خلاف هذا، وتكفير من فعله وهذا هو اللائق به رضي اللَّه عنه، وكذلك كذب نافع من أخبر عنه بذلك، كما ذكر النسائي وقد تقدم‏.‏

وأنكر ذلك مالك واستعظمه، وكذب من نسب ذلك إليه، وروى الدارمي في ‏"‏مسنده‏"‏، عن سعيد بن يسار أبي الحباب‏.‏ قال‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ ما تقول في الجواري حين أحمض لهن ‏؟‏ قال‏:‏ وما التحميض ‏؟‏ فذكرت له الدبر‏.‏ فقال‏:‏ هل يفعل ذلك أحد من المسلمين ‏؟‏ وأسند عن خزيمة بن ثابت‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ أيها الناس، إن اللَّه لا يستحي من الحق، لا تأتوا النساء في أعجازهن ‏"‏، ومثله عن علي بن طلق، وأسند عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من أتى امرأة في دبرها لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة‏"‏‏.‏

وروي أبو داود الطيالسي في مسنده عن قتادة، عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ تلك اللوطية الصغرى ‏"‏، يعني إتيان المرأة في دبرها‏.‏ وروي عن طاوس أنه قال‏:‏ كان بدأ عمل قوم لوط إتيان النساء في أدبارهن، قال ابن المنذر وإذا ثبت الشىء عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استغنى به عمّا سواه، من القرطبي بلفظه‏.‏ وقال القرطبي أيضًا ما نصه‏:‏ وقال مالك لابن وهب، وعلي بن زياد، لما أخبراه أن ناسًا بمصر يتحدثون عنه أنه يجيز ذلك، فنفر من ذلك وبادر إلى تكذيب الناقل، فقال‏:‏ كذبوا عليّ، كذبوا عليّ، كذبوا عليّ‏.‏ ثم قال‏:‏ ألستم قومًا عربًا ‏؟‏ ألم يقل اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ‏}‏، وهل يكون الحرث إلاّ في موضع المنبت ‏؟‏ منه بلفظه أيضًا‏.‏

ومما يؤيّد أنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن، أن اللَّه تعالى حرّم الفرج في الحيض لأجل القذر العارض له، مبينًا أن ذلك القذر هو علة المنع بقوله‏:‏ ‏{‏وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ‏}‏‏.‏ فمن باب أولى تحريم الدبر للقذر والنجاسة اللازمة، ولا ينتقض ذلك بجواز وطء المستحاضة؛ لأن دم الإستحاضة ليس في الاستقذار كدم الحيض، ولا كنجاسة الدبر؛ لأنه دم انفجار العرق فهو كدم الجرح، ومما يؤيّد منع الوطء في الدبر إطباق العلماء على أن الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها معيبة ترد بذلك العيب‏.‏

قال ابن عبد البر‏:‏ لم يختلف العلماء في ذلك، إلا شيئًا جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بالقوي أن الرتقاء لا ترد بالرتق‏.‏ والفقهاء كلهم على خلاف ذلك‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وفي إجماعهم هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعًا للوطء، ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج‏.‏ فإن قيل‏:‏ قد يكون رد الرتقاء لعلة عدم النسل فلا ينافي أنها توطأ في الدبر، فالجواب أن العقم لا يرد به، ولو كانت علة رد الرتقاء عدم النسل لكان العقم موجبًا للرد‏.‏

وقد حكى القرطبي الإجماع على أن العقم لا يردّ به، في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ‏}‏، فإذا تحققت من هذه الأدلة أن وطء المرأة في دبرها حرام‏.‏ فاعلم أن من روى عنه جواز ذلك كابن عمر، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين، والمتأخرين، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر، كما يبينه حديث جابر والجمع واجب إذا أمكن‏.‏ قال ابن كثير في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ‏}‏ ما نصه‏:‏ قال أبو محمد، عبد الرحمان بن عبد اللَّه الدارمي في ‏"‏مسنده‏"‏‏:‏ حدّثنا عبد اللَّه بن صالح، حدّثنا الليث عن الحارث بن يعقوب، عن سعيد بن يسار أبي الحباب، قال‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ ما تقول في الجواري أيحمض لهن ‏؟‏ قال‏:‏ وما التحميض ‏؟‏ فذكر الدبر، فقال‏:‏ وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين ‏؟‏‏.‏ وكذا رواه ابن وهب، وقتيبة عن الليث‏.‏